رياض البكري

رياض البكري
صورته عام 1970

السبت، حزيران ٢٣، ٢٠٠٧

رسالة الى ميت 1 .الى الشهيد رياض البكري ..

رسالة الى ميت 1

الى الشاعر الشهيد رياض البكري

خلدون جاويد

مر على اعدامك حتى الآن خمسة وعشرين عاما ... نشف الدمع من قلبها الأمومي وربما مات بالرعب ذلك الأشم والدك.. وفي البلد الذي اعدمت فيه لاتزال بقايا من عائلتك تكابد العيش المميت في ظل الحصار الظالم . امور كثيرة تغيرت يارياض ... بعد اعدامك بعام او عامين ظلت الأحزاب كسيرة تعتمد الكلمة ’ وتعوّل على تثقيف القاعدة الجماهيرية للناس ’ لكن الخصم كان قد مرّ على مجيئه الى السلطة سبعة الى ثمانية اعوام ولقد تمترس يوما بعد آخر بأحدث انواع السلاح . بنى سجونا جديدة واستورد السيارات البوليسية وجنّد المرتزقة وضعاف النفوس ورصد مبالغ خيالية لدعم الأمن الداخلي. كنت قد أكدت لي ان البساط ينسحب من تحت أقدام الشعب ’ مشفعا قولك بشديد الأسف وبمرارة كبيرة في ان الجبهة مع البعثيين هي كعب أخيل الحاضر والمستقبل . نعم هذا كان رأيك مع تفصيلات قاسية اخرى مفادها انه لو كانت هناك ضحايا وصراع باسل لما استفرد الحكام وترعرع بأسهم وقوي عودهم . كانت اللجنة المركزية تخاف على حياة الناس وهذا شرف لها ولكنه خوف بالغ بالسلام فأدى الىواقع مزر ٍ ومبك ٍ يقوي الخصم ! ويفضي بالموقف في النهاية الى قتل الناس . حقا لقد شارك الكثير يارياض بشكل مباشر وغير مباشر بدعم المشروع الوطني الذي قادته سلطة لاتهمها مصلحة الوطن .. ان اغلبهم مجاميع من ابناء الشوارع من الفاشلين دراسيا او القبضايات والجهلة من العسكريين والأوغاد والسماسرة والمرتزقة والقتلة والخراتيت والحيزبونات . ان الحثالات هذه قد تبوأت السلطة بقوة الدولار والمسدس وبتخطيط عالمي . والسؤال لماذا هللت لها الشيوعية من موسكو الى كوبا ؟ وحزب فهد العتيد اما كان بمقدوره ان يفكر بمعزل عن موسكو ؟ ألأنه عاش جسديا في العراق بينما فكريا في روسيا . الجسدعراقي والراس سوفيتي - تبا لنا . يوم التقيتك مساءا تحت جدارية جواد سليم في ساحة التحرير ببغداد ’ كنت لتوك خارجا من السجن . احتضنتك بثالوث مقدس أي بأخوة وابوة وامومة! اخذتك معي الى البيت بالرغم من الخوف من ملاحقة الشرطة لنا .... وكنا قد دخلنا ازقة ظلماء في كرادة مريم قبالة السفارة الايرانية وظللنا ندور وندور في القتامة وتحت بعض مصابيح الدرب الخافتة حتى انسللنا الى بيت كنت مستأجرا غرفة فيه مع زميلين .اخبرتني ليلتها انهم ارادوا شنقك مع وجبة من الجواسيس اذ اوقفوك معهم في الطابور ذات فجر ’ لا بأعتبارك شيوعيا بل ارادوا ان يلفقوا على الناس كونك جاسوسا وكان معك رفاقك الرائعون زينة ابناء الشعب العراقي .كان المراهقون المغرر بهم يكتبون على جدران البيوت " بعث على الجاسوس حربُ ......وسلاحه جيش وشعبُ " لكن لماذا انت ؟ لماذا اختاروك لمجزرة قذرة ؟ غرة انت على جبين شمس ! لقد قلت لي ان احمد حسن البكر رفض هذه اللعبة . في تلك الايام بالضبط بدأ التاريخ العراقي يتحول من مأساة الى هستيريا مدافة او ممتزجة بالسخرية السوداء. ولذا طبقت مقولة هيغل الشائنة في ان كل ماهو واقع هو معقول ! ولذا ايضا كانوا يخطون على الجدران سطورا مضحكة منها : " لو ان كوبا بكاسِترو تفاخرنا ...... فأحمد البكر كاسِترو وجيفارا " .اخبرتني ليلتها عن اخطر لعبة وغداء تمارسها مجلة اخبار موسكو والازمنة الحديثة لا تقل وغدنة عن تحويل الوطني الغيور الى جاسوس! حيث كل مايطرح فيها كذب في كذب بينما نحن المغرر بنا نوزعها في النوادي والبيوت والمقاهي وحتى على القوادين والعاهرات ونطعمها في بعض الأحيان للجرذان والسمك .كنا نخبأ تحت قمصاننا المناشير والكتيبات الصغيرة وندخل بها الى اكثر الاماكن الحكومية حساسية . اجسادنا محشّدة بالورق . والحصيلة كما يقول ابو نؤاس " واذا عصارة كل ذاك أثام " وبكلمة اخرى احب ان انبيك يارياض ان كلامك كان صحيحا فلقد سقط الاتحاد السوفياتي وتدري ان سقطة العظيم على رأسه . ولقد حدث ذالك باختصار جراء عدم كشف اخطائه بنفسه وجراء اعلام كاذب يقول انهم اقوياء وان الامبرالية من ورق وانتصار الشيوعية قاب قوسين اوادنى . في تلك الحجرة حدثتني عن هموم وآلام كثيرة ... اذ لاتستطيع ان تذهب لتنام في بيتكم ’ فرجال الامن بالمرصاد ولكن اشواقك الى أهلك حارقة وحنينك الى كشف الحقيقة احر واشد . كنت كالزهاد الذين نقرأ عنهم في الفكر الأسلامي كالحلاج والسهروردي وكنت مناضلا تؤثر الآخرين على ذاتك ... .. واقحم هنا ملحوظة هي اني طلبت منك ان تنام بمكاني وانام أنا على الأرض لكن عنادك كان اقوى من اصراري فكانت الأرض حصتك ولم يكن تحتك او فوقك من الأغطية ما يوفر لك دفئا كافيا .قيض بتصعيد السلطة ’ وانطلى ذلك على من يعشى فكريا ..وظهر الحزب الشيوعي العراقي الى العلن ’ حتى بدأ فيلم الابادة باعدام 31 كوكبا بدعوى انهم يعملون في صفوف الجيش علما بان العمل السياسي لغير عسكريّ السلطة ممنوع بل يقابل بالاعدام .العمل السياسي على حد التعبيرالسائد آنذاك بمثابة التهيأة لانقلاب عسكري .... هرع الحزب الى كردستان واختبأ الكثير من كوادره في الظل .. وهربنا خارج العراق الى بلغاريا خصوصا ’ ومنها عاد الكثير الى العراق او الى كردستان وبقي فيها ( أي هذا الكثير )بصفة رفيق في العمل التنظيمي او العسكري . ظل الحزب يعمل في الداخل وتعرض لأخطر المهام وانجز البطولات وهو بحق حزب ( كثير الخسارات ) حزب الشهداء العتيد وطريقه كان يتعبد في كل يوم بالعطاء ارواحا واموالا ’ لكن تطور الاحداث في المنطقة قاد الى الحرب .. أي الى دمار الأشخاص والعوائل وكل التنظيمات الاجتماعية في العراق فكل شئ جند ضد ايران . وبعد ثماني سنوات عادت جحافل الجيش من الحرب دامية القلب والخطى حالمة بالسلام لكنها هذه المرة زجت في اتون الحرب مع الكويت ومن ثم جرت تصفيتها وهي فارة هاربة. وجرت ابادة الشعب المنتفض وبدأ الحصار الجائر الذي دمر القطاعات الشعبية صانعة مايحتمل من تمردات او ثورات وبأختصار لا الأغنياء ولا الفئات الحكومية قد تأثرت بضغط الحصار الذي يحصد الآلاف من ابناء شعبنا العراقي المعروف بطيبته ونبله .ان التركة التي سيعاني منها العراق سيقتضيها ثلاثمائة عاما حتى تعود شجرة الطيبة العراقية الى سابق عهدها . ان عودة الروح غالية الثمن . هل تتذكر يارياض يوم حدثتك امام باب بيتي كيف اعتقلوا عزيز الحاج الذي ظهر في مشهد درامي حزين وممض لأرواحنا ولروحه هو ذاته كأنسان . كيف ظهر تحت سيف الارهاب على الشاشة الصغيرة وقد راح يقئ كالطائر المهيض الجناح روحه ووراء ه خلفية من قماش اسود لونا مختارا للأرهاب ’ وكان محمد سعيد الصحاف مدير الاذاعة يومئذ ’ يستنطقه بصفته اسيرا لامناضلا . كان الاخير يدخن بافراط ’ لونه اصفر شاحب وخلفية المشهد سوداءكما قلت والدخان رصاصي .. راح اجمل وليد في الدنيا ( بل اجمل غريق في الدنيا ) يتحدث ويتحدث على الضد مما اراد ’ على الضد مما حلم واحب وتمنى لشعبه من ازدهار ’ من دعم للكادحين في العراق وغيره .كنت يارياض قد اجبتني بالصلابة الشيوعية الحقيقية قلت لي - اذا مات عزيز الحاج فألف عزيزحاج في الطريق .. حقا لقد مات العزيز لا جسديا بل اعتباريا ... وانا يارياض احب هذا الانسان واعجب كيف لم يجن او يمت بالذبحة ... لماذا لم يصعد المشنقة بأكبار مثلك .؟ هل تعلم ؟ لابد ان تعلم ومعك كل الشهداء بان ( قائدنا ) قد اعترف واعطوه فرصة للحياة ’ اذ غادر العراق للعمل في السلك الديبلوماسي ... آه ... وعلى فكرة ... هل تعلم ان قلمه الأدبي جميل وصادق وحنون ...ومااجمل البيت الشعري الذي نسبه احد الاصدقاء اليه " ثار الارقّاء فاهتز الصدى لجباً ..... مبشرا منذرا ثار الأرقّاءُ " .ولكم اتمنى ان اخط بأصابعي هذا البيت الشعري وبحبر من ذهب على لوحة مثل لوحة جواد سليم في عمق بغداد لو ثار الأرقاء ذات يوم ! انني لأقف خاشعا وكسيرا امام اسماء ابناء وطني المنتصرين والمندحرين على حد سواء .... تدري يارياضي كم كنت انا مثلك ومثل ابي شاكر قاسيا في تقييم الآخرين . هل تعلم اني الآن - وربما هذا بسبب عامل العمر - ارثي للمنكسرين والمتخاذلين وحتى لضعاف النفوس واحب الجبناء والعاهرات وحتى الخنافس والديدان ! واني لأتمنى على كل ذي قلب ان لايقيمني في هذا الصدد لهذه الصفة التي احملها او لتلك فانني احيانا( انا ) واحيانا اخرى ( غيري) ... وانا وغيري في امتزاج التناقض الطبيعي الحاد مابين النهار والليل المتلازمين والاسود والابيض الممتزجين والسالب والموجب المتوهجين و... وباختصار" دع عنك تشبيهي بما وكأنما ". وبذا لايصح ان نطلق الرصاص على عزيز الحاج ونجلب له باقة ورد ومن جهة اخرى يصلح ذلك ومن جهة ثالثة لايصلحان كلاهما .ماهو الصحيح في هذا الزمن من اللامتناهي الفكري والفلسفي حد الحيرة . ولا اشد حيرة من الفيلسوف ابي العلاء القائل : - " في اللاذقية ضجة... مابين احمد والمسيح " . " هذا بناقوس يدق .... وذا بمأذنة يصيح " . "كل يعظّم دينه .... ياليت شعري ما الصحيح " . الصحيح هو ان لا يوجد صحيح لوحده . كل ما في الأكوان صحيح لو كان السلام اليه طريقا . الصحيح هو ايضا ان نكون دائمي الاقامة في بلدنا بعيدا عن الاحترابات السياسية الداخلية والخارجية ... لقد مر على اغترابي عن وطني الحبيب قرابة 23 عاما وهذا هو عهري الشخصي الأ ان فوهة المسدس المهووس في العراق تفوّت على جفني كل يوم ان يغفو ولو للحظات اخيرة قبل الموت في وطني المهذب .بنفسي نسمة ليل .... في صيف بغداد .... على سطح دار ... امام قمر ! رياض الحبيب.. ها انا اكتب لك من كوبنهاغن منطقة هولتا حيث اضطر للأختباء داخل سيارتي من مزنات المطر وانتظر زوجتي في بارك لوقوف السيارات . انها لو تتذكر تلك الأميرة التي رأيتها انت من بعيد في كلية الأداب في عام 1970’ عندما كنت ارفل معها في عالم الجامعة المخملي بينما كنت انت شريدا بين تنظيمات الداخل والكفاح الفلسطيني المسلح ومنظماته في لبنان الأغر . ... ها انا انتظرها متنقلا بها بين المدن والاقضية الدانماركية لتقوم بالترجمة وتقيت عائلتنا .. المكان الذي اقف فيه يشبه اطلالة حزينة على قبرك المجهول . وقد دفعني للكتابة اليك ’ علما بان الرغبة موجودة ومزمنة كالشجن الشعري الأ انها تتحيّن فرصةالتدفق . لقد اثارتها اشجار عارية من الأوراق توحي باليتم والفراق ! فروعها ممتدة وبالمئآت كأنها اشباح ليالي ممطرة وحزينة. المطر يهمي ويهمي ولاينفك يهمي كأنه عيون السياب الثكول . زقزقات اطيار نيسان تنبعث في هدأة المكان كأنما هي ترانيم كنيسة او هدهدات مهد. لو يستمع المرء الى طيور هذا الفصل لما توقف عن البحث عن معرفة اسمائها فهي تبهج المكان اصائلا وبكورا . .. هنا الشوارع خالية كالغموض . والسكون جم كليل المقابر وحدقة العين مترعة بمسيل مز ومالح . .. طيلة هذه الأعوام وانا احملك على كتفي وقلبي يارياضي الأثير وما لي في ذلك فخر ولا امتياز .انت ولدت ومت لتبقى زهور دمك جلنارا عطيرا مطرزا على وسادة احلامي وثيابي .

ليست هناك تعليقات: