رياض البكري

رياض البكري
صورته عام 1970

السبت، حزيران ٢٣، ٢٠٠٧

رسالة الى ميت 3 .. الى الشهيد رياض البكري

رسالة الى ميت 3

الى الشهيد الشاعر رياض البكري

خلدون جاويد

رنكستذ ............................................... -الدانمارك 22/4/ 2001 أكتب اليك من منطقة تدعى رنكستذ اذ انتظر زوجتي المنشغلة الآن بالترجمة في المستشفى . هذا النهار ايضا مشمس شديد السطوع . الهدأة لاتضاهى . . الهدأة نغم . هناك عشرات الزقزقات الصادرة عن انواع مختلفة من الطيور . هناك هديل حمامة تلامس الروح بالعذوبة . ( لكنها بيني وبينك لا تعادل بالسحر والحنان في نظري تلك الحمامة الحلاوية الصادحة باللوعة الفراتية الجميلة ككوكتي وين اختي بالحلة ...ألخ ) - طبعا تحّيز - ...... وما العيب في ان يتحيّز الانسان الى وطنه ؟.في الحنين الى الماضي على الاقل. ها انا اعود بذاكرتي الى شارع السعدون حيث دكان الخياط توفيق ناجي الذي لاانساه حتى الموت وكما تقول الخنساء " بلى والله لا انساك حتى ... افارق مهجتي ويشق رمسي " اذ في احد الأيام وانا في دكانه كان هناك ابوعاصم ( ابو ذر ) *وهو موسوعة جمالية وخريج (جامعة السجون )! العراقية . وعندما اذيع اسمه من راديو اذاعة بغداد مع مجموعة من الرفاق الشيوعيين في عام 1968 اثناء العفو ’ كنت انا امام بحر الخليج مسترخيا امام الزرقة مستمتعا بالرمل الحار ومتأملا مايشف من اجساد السمراوات. كانت تلك اللذعة السعيدة لسماع خبر ابي عاصم وتحرره من ربقة السجن محط فرحي وايضا محط شعوري بأني مقصّر فكان يجب ان اشاركه عذاب الزنازين - كان عمري آنذاك 18 عاما - وان اشاركك في تلك الفترة يارياض ولو لأيام قليلة لحظات صمودك المرير اذ كنت قد انتميت الى اتحاد الطلبة وبعد ذلك الى الحزب وكانوا يلتقطونك من المظاهرة ليدبغوا جلدك بالسياط ويطلقونك بعد حين وقد تكرر ذلك عدة مرات. في دكان توفيق ناجي كنا نلتقي . ونسرح ونمرح في زمان الجبهة الوطنية والقومية التقدمية . كنا نشرب في صحة احلامنا وافراحنا المؤقتة وننشر الكلمات الموردة ونزهو بالحرية الملغومة . نتجول بكتبنا الماركسية المهيبة ’ ولجنتنا المنطقية تراكم اهراما من الخلايا لكن كما كنت تقول بان لجانا بالمئات تكونت وتهدمت مع السنوات والعبرة هي بالانتصار لا بالخيبات المتكررة . ان تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي تضرب وتسحق عبر عشرات السنين وليس من قبيل البطولة تكوينها . البطولة بتفجيرها في عمق انتفاضة .ومع ذلك ’ يقال ردا على المستخفين باهمية التنظيم ورغم المخاطر المتكررة والكبوات المستمرة ان معاونا للشرطة قد ابدى كلله وملاله من الشيوعيين اذ قال مااتيت الى مكان عملي في كل صباح ولثماني سنين من دون ان ارى طفلا او رجلا او شيخا او امراة ’ وماان اتسائل من الشخص الموقوف حتى يقولوا لي هذا شيوعي او هذه شيوعية !لماذا الشيوعية في العراق ساحرة الى هذا الحد ؟ ان الاعتقالات والاصفاد لا تنتهي وعشاق الشيوعية اياها لاينتهون فكلاهما يعيشان مع بعض كالليل والنهار وهنا لابد ان اقول ان الجمال الخلاب هو ان اكون عاشقا لا شرطيا ’ حرا في سجني لا سجانا في الزمن العبودي او خادما لمن هو اعلى ! اللعنة على كل من هو اعلى ! بما فيها القصور وناطحات السحاب وسكان الطابق الثاني وباص المصلحة ذو الطابقين ! . تعلم يارياض انني في ذلك الدكان كنت قد تعلمت مغزى رواية ( الشمس في يوم غائم ) لحنا مينا فقدكنت التقي بأبي شاكر مابين الحين والآخر وكان توفيق يستضيفنا بكل حفاوة وكانه يقول لنا مع احدى شخصيات هذه الرواية التي تدبك على الأرض بأن نركل ونرقص عليها ’ أي ندق بكعوب اقدامنا وجه البسيطة بقوة وبهياج وتماما كما كان الحوار في الرواية ... :- اضربها اضربها بقوة ابنة الكلبة هذه ... . صحيح اني ذلك المحظوظ بالاستماع لأفضل اساتذة اللغة الانجليزية واقرأ هذا الأدب الشاهق واواظب على حضور دروس الجامعة الأ انني لم اجدالكثير منهم بعذوبة شخصية توفيق ولا بدفء روحه ولا بوفرة وغزارة معلوماته. فهل هذا يعني ان الشخصية الشعبية الذ من شخصية الدكتور الجامعي ! لربما يصح ذلك احيانا ! كان مكان توفيق ملتقى آخر خبر . ...وهناك !.. هناك علمت بخبرك ’ حيث قال لي ابو عاصم ان رياضا لقي حتفه . كنا وراء زجاج نوافذ الدكان وكنا نتحاشى بالنظر من يفاجئنا بالدخول من الزبائن وكان توفيق قد اسبل يديه ووقف يصغي الى تفصيلات النبأ . حزن توفيق بينما جمد وجهي . قالوا انك كنت كالمسيح ثائرا ومبشرا . وكانت منظمتكم قد اتخذت قرارا بأنقاذ حياة الآخرين من ضغط التعذيب وذلك بأن سمحت للرفاق بأن يعترفوا وان لا يصمدوا حتى الموت. يكفي بان يموت انسان واحد يجري تجيير التهم كلها ضده وهنا وانا واثق مما اسجله بعدك لكوني قد سمعته بكل تأكيد : انك كنت كبش الفداء . كنت تدعي انك لست رياضا بل شخص لبناني ولكن ذلك لم يجدِ نفعا . لقد حكموا عليك بالشنق حتى الموت كونك ( رياض ) اذ القوا عليك القبض وانت تزور عائلتك التي انتقلت من بغداد الى مدينة اخرى . كان رجال الأمن خلفك دائما وبالمرصاد ! ... وحقا كما يقول ماركس هناك شبح يهدد اوروبا العجوز . كنت انت احد انبل واشجع من يهدد ويرعب الاوغاد . موقفك الأخير لم يكن بصفتك شخصا لبنانيا الذي ادعيت براءته مما ينسب اليه ,‎. لقد اطلقتها في شقرة الشمس وخيوطها الاولى ومن تحت اعواد المشانق . اطلقتها امام رفاق سجنك :- انا رياض البكري مع السلامة يارفاق وقد هتفت ! قبل لحظات من وضع الحبل على عنقك : عاش حزب الطبقة العاملة العراقية الحزب الشيوعي العراقي .لقد عمدت بالوفاء مقولة فهد الجبار الشيوعية اقوى من الموت واعلى من اعواد المشانق . ولقد كنا وانت تغص بحشرجات الشهيد ’ كنا نائمين في سرير عهرنا اذ كان يجب ان نكون معك . وعندما استمعت الى الخبر المفجع ذهبت بصمت الى بيتي ورتعت في الدفء .وبعد أيام وكأي وغد حملت حقيبتي الجامعية وكتبي لأواصل دراستي ويومياتي العادية وضحكاتي وهمساتي في زواياي في جامعة بغداد ’ مع الحسن والجمال في نادي كلية الآداب او التربية -الكلية المجاورة -واكتب القصائد الغزلية ودماغي الصغير لم ينضج بعد ولم يرقَ الى مستواك او لأني من طينة اخرى او لأني خائف او مذهول ام اني لم اكن مهيئأ نفسيا وفكريا بما فيه الكفاية لأكون قربانا . ان مشاعر الفداء حالة راقية ذهبت انت اليها قبلي . ولم اكن اقوى على الارتقاء اليك في تلك الأيام . هل سأخضع ذاتي الكسيرة ايامذاك الى التحليل النفسي . كنت بلا ام ولا حبيبة ’ بلا اب فلقد اخذته النساء مني على حد تعبير الشاعر بدر شاكر السياب . وكنت حتى على مستوى الحياة المنزلية جائعا بل مجوّعا . كان الخراب يلفني ’ يزيده لعنة مكائد زوجات الأب وحلمي بيد حنون .كنت شيئا من قبيل المستحيل أي كنت ارضا من رمل . رمل لايعطي ورودا كما كنت انت تفعل . جسدي بكل ماتعني العبارة من معنى صحراء لا قطرة ندى عليها . هل هذا معناه انني يجب ان ارتوي حنانا عائليا اموميا بخاصة كيما اكون اهلا لشق طريق الحرية والفداء من اجل فكرة ؟ انا افتح هذا الباب على التحليل النفسي واتمنى ان اعود اليه بالنقاش او المساجلة . كنت انت الوحيد الذي اجد فيه صداي .. لم اكن منظما بوقتها ولا تراكماتي الفكرية قد آلت الى تغيير نوعي في وعيي الصغير على المحبة والتفاني ولعل احدى مثالب العمل الثوري بين الجماهير عندما يجري الزج بالعجين قبل اختماره في أتون لا يتناسب معه او لا يليق به .. كيف يضحي الانسان بجسده وحتى الموت مثلما فعل عبد الامير سعيد عام 1963 ( عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي )اذ هددوه بان يعترف او يدخلوه الى اتون صناعة الخبز (فرن الصمون ) كيف يرقى الجسد على النار والالم ؟ ...... انه بالوعي الجبار لحاجة البشر الى تحقيق الجمال والحرية وهنا يكون عبد الاميرسعيد الذي ادخلت جثته الى الفرن وقد اغلق عليه الباب يكون هذا البطل الخالد جمرة في ضمير كل عراقي . اما سلام عادل الذي اخرجت عينه بملعقة بعد ان دخل عليه احد الجبابرة من ذوي العضل المفتول وهو( سلام ) بنحافة الفيلسوف او الغلام الطهور متهما اياه بانه شتم علي ابن ابي طالب عليه السلام فرفعه ليضع ظهره على ركبته الجبارة ويكسره ا يما كسرة ! بعدها استشهد تحت التعذيب ... ولم يعلم هذا البائس الذي يعمل بدريهمات قذرة لدى اجهزة الامن ان عليا والعلوية انما هما تيار ثقافي واسع ينتهل منه الشيوعيون اكسيرا طهورا وقصصا للأباء ورموزا للفداء ’ وان التعبير المرموز له بالحرفين (ش ..ش ) انما يعني شيعي شيوعي .. وفي العراق المبجل آلاف بل ملايين منهم . ان من يؤمن بالمغزى الهائل الروعة لمدرستي الدفاع عن الفقراء والمظلومين ’ ان من يؤمن ويصدق بايمانه بالتعبير (ش..ش) انما يستحيل الى منار ملهم فيغدو كما فعل سلام عادل وآلاف من ابناء شعبي المهذب سرا من الاسرار بقاموس البطولة الشبيهة بالخيال والوهم . والسؤآل هو اما الاعتراف على الناس او الموت ! أجب من تختار ؟ الجواب بعد ان نمسك القلم هوبكل جبن او شجاعة : ( ............) ! يارياضي الغالي ( يالتفاهتي انني حي بعدك ) لقد شعرت بالمرارة والقسوة والتأنيب لعدم كتابتي السطور على الجدران . تلك السطور التي ظللت اكتب المئات منها وكلها كلها أي مئات المقالات لاتعادل وقفة جبارة امام حائط لكتابة شعار سياسي . بكتابة الشعار على الجدران يرسم الرفيق الحزبي شوكة في عيون الشرطة ورجال الامن وكل الجواسيس . حريتي هي درجة اقترابي من الموت على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي سارتر . انها ليست مباهاتي بالعزلة والتقوقع مثلما كان يفعل بعض شبيبة الستينات الذين فهموا الوجودية بمعنى ليبرالية وحيْوَنة . حريتي هي ليست ضحكة عالية مستهترة في ليل مخمور بينما الدمع يغمر البيوت والشوارع والوطن . حريتي ليست فرحي الشخصي والناس حزانى . حريتي ليست حركتي العمياء وانا جاهل بكل مايدور . حريتي لايجب ان تكون بلا تبصّر . حريتي يجب ان تكون علما وفراسة وتمحيص ودرس . حريتي لا يجب ان ابيعها بالملايين لأغدوا عبدا اوحارسا او سمسارا اوحرسا اوفدائيا ارعنا . حريتي لا يجب ان يأخذني اليها شرطي او جاسوس او مسؤول امن . حريتي يجب ان لا يستدرجني اليها مراهقون حزبيون ! حريتي لا يجب ان تكون جبانة . لقد قضيت حياتي وانا احمل عقدة الضعف والسؤآل هو متى سأكتب على جدران مدينتي تلك الشعارات التي احبها والتي ادخل بموجبها التاريخ كرجل شجاع . شجاع عاشق اعظم من فيلسوف خائف ... لماذا احبُ ابا شاكر ؟ لأنه كان قد طبق الكتاب على الواقع . كان يتخفى وهو يحمل سطلا وفرشاة وصبغا ( البوية الحمراء ) وكان يهرب متوغلا في عراء من الظلام بينما تطارد شبحه سيارة النجدة - الشرطة وهي تدور على اسفلت الشوارع عاجزة عن الدخول في مناطق ظلماء تتخللها الحفر والسواقي والركامات.

ليست هناك تعليقات: