رياض البكري

رياض البكري
صورته عام 1970

السبت، حزيران ٢٣، ٢٠٠٧

رسالة الى ميت 2 ..الى الشهيد رياض البكري

رسالة الى ميت 2

الى الشهيد رياض البكري

خلدون جاويد

رياضي الحبيب : اكتب لك من كريفينكا قرية غرب الجزيرة الاولى شيلاند ...ذهبت هيام لتوها الى الطبيب لتترجم لأحدى المريضات .
المكان حدائق تحيط بمبنى الطبيب .. اشجار متوسطة الطول ’ واوصال الشجر تداعبها نسمة خفيفة رقيقة رغداء ... بداية اشعة الشمس الصباحية تتسلل الى هذا العالم البارد والمنتظر دفء وعذوبة نيسان وآيار ... يكاد يسمع للصمت دبيب ... وهناك همسات عصافير غاية بالاتساق ... احاول ان اربط ما كتبته لك بالأمس : لأبدأ من آخر جملة : طيلة هذه الأعوام وانا احملك على قلبي ..الخ .. ومع ذلك فقد ران على عينيّ رماد او غبار لم يجعلني اراك ’ بل انشغلت عنك كثيرا ولسنوات طويلة . شفيعي في ذلك عملي السياسي الذي يأخذني من كل شئ . من اخي ستار الذي لم اشاهده منذ 23 عاما ومن عائلتي وحتى مني . ...كتبت عنك قصيدة لكنها لم تعبر عن حزن كاف داخلي ( ارفقها في الهامش رقم 1 ) . كتبت مقالة عنك ونشرتها في جريدة الوفاق في عام 95 لكنها ايضا لم تفِ بالتعبير عن جراح قديمة وشهيد عظيم وفخم مثلك ( ارفق المقالة في هامش رقم 2 )والتي ارتأيت فيها ان اكتب عنك بقوة وصدق ’ صدق كلفني مجافاة الآخرين.ولن يهمني ذلك بل ساتمنى ان يكتب كل انسان ليس بالضرورة ان يكون اديبا او صحفيا او شاعرا ’ ان يكتب عن الحبيب المفقود فذلك ادعى للوفاء ودرس في الواقع وعناق شفيف للمحبة الانسانية . يجب ان نتذكر امواتنا ولو بوردة وأخطاءنا بألف شوكة واخزة ..الساكت عن الحق كما قالوا ملايين المرات شيطان اخرس ... يجب ان يتحلى غير الجبان بالشجاعة والا فما عليه الاّ ان يجانف الكتابة تحت طائلة الخوف ... ان يكتب المرء وهو خائف اوبغية الترزق او المداهنة او التساهل في النظرية والواقع فذلك هو السقوط الأخلاقي والفكري ... انها القردنة والقحبنة في آن . وانا لست صحفيا لأي حزب على الأرض ولن ارتدي الحنديري الآيديولوجي حتى ولو كان ذلك مدعاة لمقاطعتي او ايذائي او حتى قتلي . يوم غادرنا العراق نحو بلغاريا اخذتنا المنظمة الى مدن عديدة . وزعونا عليها اوبالعكس . كانت حصتنا بليفن وهي مدينة جميلة في غابات الدنيا . كانت هناك بانوراما كبيرة جدا تحكي بطولات الشعب البلغاري ضد الغازي التركي قبل قرن اوآخر . انها تطل على وادي كبير اسمه وادي الموت او الوادي الاحمر . هناك حول البانوراما قد زرعوا الارض بمآت الآلاف من الورود وقالوا لنا انظروا كم جميل هذا البحر من الازهار ... ان كل زهرة ترمز الى شهيد وعددها مطابق لعددالشهداء الذين دافعوا عن وطنهم . آه كم من الدموع ذرفت امام قبر كل شهيد او امام كل زهرة ! ولماذا هكذا موت ودموع في تاريخ الشعوب يارياض ... متى يتعلم الانسان ان يحب ويعشق ويغني ويحيا بسلام . متى نضع الوحشية وراءنا بل نقبرها الى أبد الآبدين . ... لذكراك اغرز وردة واضيئ كلمة وشمعة .ولن اهاب الكشف عن حقيقة الأيدي القذرة التي قتلتك اوالتي لم تطالب بدمك او تحيي ذكراك . ان وجهك عباد شمس ذاكرة العراق . تعلم يارياض انني مدين لك اكثر من أي شاعر في الدنيا .ولذا احكي لك . اتحدث معك ميتا حيا . فأنت ملاذي في مناجاتي وهواجسي وان كنت تحت التراب ! فاسمح لي بهذا الاستطراد : يوم ان دخل ابو شاكر على الخط ’ وجاء من وراء الأزمان ليضع باقة من حسك على حرير ايامنا ولاوعي صبانا ’ عندما جاء هذا المشاكس المخاوص العينين قال لنا : كفوا ورودا او توقفوا ثرثرة عن الحسن والجمال الرومانسي . هذا تاج المسيح الشوكي ’ انظروا كيف شنقوا رمز المحبة . هذا هو الحسين العظيم واللامتناهي نبلا وبطولة .هذا فهد يوسف سلمان الجبار الذي شنقه الحكم العميل في عام 1947. ولا يزال يشنقه عديمو الضمير كل صباح . هذا ماركس الذي جاع وماتت له اربع بنات ولم يتنازل عن مبادئه . زوجته اخت وزير في الحكومة الالمانية بينما هي وزوجها يرفضان ان يمدا يديهما له من اجل ماركات قليلة لدفن طفلة ميتة على السرير منذ امس . انظرا يامن تتطلعان الى النسوة فحسب . انظرا تاريخ الجراح العالمي لتجدا ان شهداءه وابطاله اجمل رومانس مائج بسندس ونسرين . على كل ارصفة بغداد حيث يصطحبنا من الداوودي الى باب المعظم والرشيدوشارع السعدون وبغداد الجديدة لايكل عن الأحاديث والشرح والهمس المتواصل باسماء دول واحزاب واحداث وتواريخ ولعشرات بل ولمئات المرات كان امله وسؤله وديدنه ان يصنع من الفحم ماسا . وحقا فأن تلاميذه كثر ولكن لا يعرف بعضهم البعض . لا اريد ان اذكر اسمه المجلجل لأنه لا يزال يعيش في احدى القرى العراقية اسكافيا محاطا بعشرات الاحذية المتربة والقذرة وبالأرفف المتسخة الصفراء وامامه كل صباح سندان وفي فمه مسمار ( كما هو شأن الأسكافي اذ يضرب مسمارا في كعب حذاء ويتناول الآخر من بين اسنانه ) هناك يعمل في ورشة الخسران صاحب اعظم ذهن جدلي ديالكتيكي ! يتحدى الكثيرمن اساتذة الجامعات من ذوي الياقات المنشاة والليونة الانثوية المارقين في الازمان ’ المدجنين المساومين المتعاونين المتسخين حقا . حقا لقد سلخك يارياض من صداقتنا ورحت معه قبلي كما راح هاملت وراء شبح لكي يقول له الحقيقة ويومها انفرطت صداقتنا رويدا رويدا . فبدلا من ان ندور في الشوارع والمقاهي والأرياف والضواحي نحفظ الشعر ونقرأه لبعضنا البعض ’ اخذت تمضي مع ( ابو شاكر ) الى الخلايا الحزبية . بدلا من قراءات حول جرير والفرزدق وديك الجن ’ كنت تقرأ المناشير بدلا من التطلع الى نوافذ المراهقات . كنت احب هذا التجشم الشاهق فيك وظللت انت وابو شاكر مثار الحسد عندي او الأعجاب .. ضممتما صديقنا الثالث اليكما ( ل ن ) بعدما كان الأخير ظلا لي في ملعب صبانا وحداثة سننا واذا بي ابقى وحيدا . اخذ هو الآخر يعشق العمل النضالي والتحريض والدفع الثوري . ويقرأ شعر مظفر النواب بل يستنسخه ويحفظ الكثير منه وعلى المؤرخ النبيل ان يفسر لماذا اعظم الشعراء العراقيين متأثرين بالفكر الشيوعي . ان قصائد ( مظفر ) تميمة تحت كل وسادة في عراقنا العاشق وهي مصباح على عتبة كل دار . لم يكتفِ هؤلاء المغرمون بالوطن والشعر وحب الفقراء الأّ وان يشتركوا بكتابة شعارات عمالية بتوقيع الحزب الشيوعي العراقي على الجدران ... كانت المنطقة جميعها مطوقة بحزام وردي من الألوان لشعارات رائعة تدافع عن الحرية وحقوق الطبقة العاملة والفلاحين والطلبة الثوريين . وكنت ( اللعنة ) انا الوحيد الذي لم يشترك بهذا الكرنفال .لكنني كنت ذلك الصديق المنقذ لأكثر العذابات تداعيا : ايصال رسائل على شكل مناديل مطوية . ارقام تلفونات . ايصال او اعطاء مبالغ لمن يحتاجها . وانا صديق وفي ’ وعلى اتصال دائم ومستمر لأكثر الأعضاء خطورة ممن عليهم القاء القبض !.خاصة ذلك الهارب من بيته ووطنه فيما بعد والذي استشهد في العمل المسلح دفاعا عن فلسطين . كنت احيانا مثل الأطرش في الزفة على حد التعبير العراقي .كان ( ل . ن ) يضحك مني عندما ينتبه لحركتي الصداقية بينهم ويقول لي ماهو الفرق بينك وبين المنتمين . المهم انت شيوعي خطر ام شيوعي قذر ؟ ! هكذا كان يمازحني باعتبار الشيوعيين في زمن الجبهة مع السلطة ’ نوعين ! . اما عقيل فكان يسمي النوع الجبهوي : بجماعة ليلى مراد التي توافق باستخذاءٍ على كل مايقال . وكان يغني بهمس ونحن نجلس على المصاطب في احضان الشاطئ المفروش بالسندس على شاطئ دجلة من جهة ابي نؤآس ’ ومستهل اغنيته : الجبهة زعلانة ’وعامر يراضيهه . ويقصد بذلك عامر عبد الله الذي صار وزيرا في السلطة والذي يمثل ’مقارنة بالتراث السياسي الفرنسي’ المهادنة المليرانية .او ان يغني ابياتا نقلت عن للشاعر عريان السيد خلف من قبيل " امّداهه لروحي امّداهه ’ تمشي وره اليمشون ’ كانوا وراهه " .

ليست هناك تعليقات: